تدقيق المعلومات.. خط الدفاع الأخير لكشف دعاية الاحتلال في فلسطين

تؤثر القدرات العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي في تمكن كل جانب من تحقيق مكاسب على المستوى الميداني في الحرب على غزة، لكن هذا وحده ليس كافيا لحسم النتيجة؛ فثمة معركة أخرى تدور حول الوعي تؤدي دورا رئيسيا ومهما في المعركة، وتدور كذلك حول السردية التي تحدد من هو الضحية ومن هو المعتدي.

 وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فلن تُبذَل جهود من أجل نشر الروايات الكاذبة والمعلومات المضللة، ومن جهة أخرى لن يُضطر الجنود على الأرض إلى توثيق ما يحققونه من نتائج على الأرض بكاميرا تصحبهم في أخطر أماكن الاشتباك.

تعد عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من مجازر الاحتلال الإسرائيلي على غزة من أكثر الحروب توثيقا لأحداثها، وفي الوقت نفسه من أكثرها انتشارا للتضليل بشكل كبير؛ ولا سيما عندما نرى أن أساليب الخداع والتزييف الممنهج تتطور في ظل تدفق خبري يومي متسارع في قوالب وأشكال متنوعة.

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من هذا العام، شكّل توثيق الأحداث بالفيديو جزءا رئيسيا من مشهد الحرب، ووصل الأمر إلى توثيق اشتباكات من المسافة صفر. وفي الوقت الذي يُعد فيه هذا النوع من التوثيق الأكثرَ كفاءة في نقل المعلومات لقربها من الواقع وتأثيرها في المشاهد، فإنه يرفع أيضا من مخاطر التضليل عندما يُستغَل في نشر المعلومات الكاذبة التي لا يقتصر اقترانها مع الفيديو على تلاعب في الصورة فنيا فحسب، بل أيضا على ادعاءات كاذبة تصاحب اللقطات، بدءا من العناوين المضللة أو الأحداث خارج السياق أو المواقع الجغرافية غير الصحيحة، مرورا بنَسْب الحدث المصور إلى فترة زمنية ليست مرتبطة به، وصولا إلى أعلى درجاته؛ وهي التزييف العميق.

يمكننا تلخيص أبرز مواضيع السردية المضللة في: ربط التنظيمات الإرهابية بالمقاومة الفلسطينية، والادعاءات الإسرائيلية التي تجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرر الاعتداء عليهم حتى داخل المستشفيات.

وإذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى، فإن مقاطع الفيديو استُخدِمَت بشكل إيجابي كذلك في تفنيد الأكاذيب من قبل مدققي المعلومات؛ إذ إن الضحية الأولى للحرب هي الحقيقة، وفي الوقت نفسه هي الأداة الأقوى.

من واقع عملنا اليومي في تدقيق المعلومات خلال الحرب على غزة بوكالة التحقق الإخباري بشبكة الجزيرة (سند)، يمكننا تلخيص أبرز مواضيع السردية المضللة في: ربط التنظيمات الإرهابية بالمقاومة الفلسطينية، والادعاءات الإسرائيلية التي تجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرر الاعتداء عليهم حتى داخل المستشفيات.

إن بيان الحقيقة من الكذب في هذه الحرب عمل شاق بالفعل؛ فالنتيجة لها عواقب إنسانية وأخلاقية.  لذلك؛ إن معظم الروايات المضللة بدت مصحوبة بحبكة قوية معتمدة على أساليب تلاعب معقدة، وما زاد من صعوبة التدقيق محاولاتُ حجب وصول الحقيقة إلى الجمهور من بعض مواقع التواصل الاجتماعي والتحيز ضد القضية الفلسطينية في خوارزمياتها التي توفر البيئة المناسبة لانتشار رواية واحدة؛ وهي رواية الاحتلال.

إحدى الروايات المضللة التي جذبت تفاعل العالم نحوها كانت واقعة تفجير مستشفى الأهلي (المعمداني) في غزة يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وكانت تبث على الهواء مباشرة على شاشة الجزيرة أمام العالم، وهو ما دفع الجهات الرسمية الإسرائيلية إلى أن تستغل سريعا تسجيل البث الحي للجزيرة للتنصل من الجريمة وإلصاقها بفصيل فلسطيني (حركة الجهاد الإسلامي)، مدعيةً أنه صاروخ فلسطيني فشل في الإطلاق ووقع على المستشفى! وهو ما أثبتنا في تحليل معمق أنه كذب وادعاء.

مثّلت الواقعة صدمة كبيرة في الوهلة الأولى أثناء بث الرعب عبر تحذيرات مسبقة لجيش الاحتلال من قصف المستشفيات في غزة، وكأن هناك حبكة ما في إخراج  هذا المشهد، ولا سيما أن ثواني فصلت بين القصف وانفجار آخر، وهو ما أثار شكوك فريقنا في الوكالة ففتَحْنا تحقيقا فوريا فيه باستخدام تقنيات متقدمة عبر المصادر المفتوحة، وأجرينا تحليلا لمقاطع البث الحي وكاميرات بث أخرى أكدت نتائجه أن أجهزة الدولة الرئيسية في إسرائيل تعمدت استخدام مقاطع فيديو مضللة لتوجيه الرأي بشأن رواية الاحتلال المضللة.

وأشارت لاحقا نتائج تحليلات صور ومقاطع فيديو أجرتها صحيفتا لوموند الفرنسية ونيويورك تايمز الأمريكية إلى نتائج تحقيق سند في إثبات أن الرواية الإسرائيلية الرسمية في مجزرة مستشفى الأهلي في غزة يوم 17 أكتوبر الجاري التي راح ضحيتها مئات الفلسطينيين غيرُ صحيحة.

وتمكنا في سند من التوصل إلى عدم صحة الأدلة الواردة في الرواية الإسرائيلية عبر إثبات أن الصواريخ التي سجلتها الكاميرات لا يمكن أن تكون من الصواريخ الظاهرة في رشقات المقاومة، وإنما كانت قبل قصف المستشفى، وقد اعترضتها منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية.

في حادثة أخرى، ثمة مقطع فيديو آخر نشره حساب جيش الاحتلال يظهر مقتل أربعة مقاتلين فلسطينيين ادعى أنهم كانوا مسلحين يتبادلون إطلاق النار معه، لكن بدا أن المشهد لم يُحبك جيدا؛ إذ اتضح لنا أن الأفراد كانوا غير مسلحين وكانوا يلوحون بقمصانهم دلالةً على الاستسلام، وظهر الأسرى بعد ذلك يجثون على ركبهم استجابة لأوامر الجنود الإسرائيليين، قبل أن تنفذ القوات الإسرائيلية إعداما لهم.

الخطاب العاطفي الممنهج

عندما تتغلف المعلومة بالعاطفة في أوقات الحاجة الماسة إليها، يصبح المجال مفتوحًا أمام تصديقها. هكذا كانت الوصفة الرئيسية في قائمة البروباغندا الإسرائيلية الرسمية لنشر الادعاءات الكاذبة، وكانت الصيغةُ الرئيسية فيها متمثلة في الخطاب العاطفي الذي اعتُمِد في بداية الحرب بعد هجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر من العام الجاري.

لقد ظهر ذلك في حملة تضليل انتشرت بتبني رواية قطع رؤوس 40 طفلا على يد المقاومة الفلسطينية عندما اقتحمت مستوطناتٍ إسرائيلية خلال عملية “طوفان الأقصى”، وبدأَ نَشْرَ الادعاء جنديٌّ إسرائيلي (نيكول زيديك) خلال لقاء مع مراسلة قناة i24 الإسرائيلية التي أكدت الادعاء وكررته حتى انتشر سريعا، لتضطر لاحقا إلى التبرؤ منه بعد انتقادات لاذعة لعدم وجود ما يثبت الرواية رغم وجودها في موقع الادعاء المزعوم.

عمدت وسائل إعلام عالمية إلى تضخيم الرواية رغم تبيان زيفها وعدم دعم مراسليها لهذا الادعاء بأي صور من الأرض. بعد ذلك، كرر هذه الأكذوبة الرئيس الأميركي جو بايدن، قبل أن يعترف أنه لا هو ولا إدارته شاهدوا الصور بالفعل.

في هذا السياق، أجريت عدة حملات تضليل ممنهجة ومخصصة للجماهير حسب اللغة وطريقة الخطاب من خلال قنوات رسمية إسرائيلية، أبرزها: إسرائيل بالعربية، وحساب الدولة (إسرائيل)، ووزارة الخارجية الإسرائيلية. واستهدفت استغلال عواطف الجمهور، وتضخيم معركة حرب المعلومات بأي وسيلة على حساب الحقيقة.

لوحظ خلال موجات التضليل المكثفة انتشار سياقات مضللة من حين إلى آخر؛ إذ انتشرت مقاطع تمثيلية مصورة في تواريخ قديمة ودول أخرى غير مرتبطة بالحرب على غزة، مع ادعاءات تربطها بها، وهو ما تكرر على حسابات مواقع التواصل لمشاهير ومؤثرين.

عندما تعود المقاطع القديمة إلى الواجهة مجددا

نوع آخر من التضليل يتمثل في تداول صور وفيديوهات قديمة على أنها تتعلق بالحرب على غزة، حتى إن كثيرا منها لم يكن مرتبطا بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الأساس، أو لم يكن حقيقيا؛ مثل مقاطع من لعبة الفيديو “Arma 3” التي كثر استخدامها في سياق مقاطع الحرب على غزة.

في هذا الصدد لوحظ خلال موجات التضليل المكثفة انتشار سياقات مضللة من حين إلى آخر؛ إذ انتشرت مقاطع تمثيلية مصورة في تواريخ قديمة ودول أخرى غير مرتبطة بالحرب على غزة، مع ادعاءات تربطها بها، وهو ما تكرر على حسابات مواقع التواصل لمشاهير ومؤثرين.

إحدى الصور الأكثر انتشارا كانت لشخص يرتدي كفنا أبيض ويجلس على كرسي ممسكا بهاتفه، وقد نُشِرت مع ادعاءات مضللة تشير إلى تزييف مشاهد الجثث في غزة. وبعد الانتشار الواسع للصورة والتحقق منها، تبين أن الصورة من تايلاند وليست من غزة ولا علاقة لها بالوصف الذي أرفقته حسابات إسرائيلية، ونشرت في أكتوبر/ تشرين الأول 2022 ضمن احتفال بعيد الهلع (الهالويين) في مركز تجاري في مدينة ناخون راتشاسيما التايلاندية.

الذكاء الاصطناعي طرفا في المعركة

لعل من الأسئلة التي شغلت أذهان كثيرين -مع ظهور طفرة أدوات الذكاء الاصطناعي- هو ما إذا كان يمكننا الوثوق بالصور الفوتوغرافية وعَدُّها صورا حقيقية للقصة، مثلما حدث مع صورة غير حقيقية كليا منشأة بالذكاء الاصطناعي لأشلاء عشرات الجنود بينهم علم إسرائيل وأسلحتهم، تداولها مستخدمون مع خبر يشير إلى قتل جنود إسرائيليين نتيجة شدة قصف أمريكي مشارك على غزة، وفق الادعاء المتداول.

ما يزال هذا الخطر مستمرا في التزايد، ومع التلاعب بأدوات الذكاء الاصطناعي في الصور وقع في فخ تداولها كثير من المؤثرين ومتابعيهم. وتكمن خطورة هذه الصور في صعوبة التمييز بينها، وربما تحتاج إلى خبير تدقيق معلومات؛ إذ إن الصور تكون غالبا غير متداولة سابقًا  -منشأة بشكل أصلي- وهو ما يمنح متداوليها فرصةً عند كل عملية مشاركة لمزيد من التأويل للصورة.

مع التلاعب بأدوات الذكاء الاصطناعي في الصور وقع في فخ تداولها كثير من المؤثرين ومتابعيهم. وتكمن خطورة هذه الصور في صعوبة التمييز بينها، وربما تحتاج إلى خبير تدقيق معلومات

لقد علمتنا هذه الحرب مدى أهمية وجود فريق خبير في التحقق عبر المصادر المفتوحة في غرف الأخبار، في ظل صعوبة وصول الصورة من المراسلين على الأرض في ميدان المعركة أو حتى انعدام ذلك، وهو ما استوعبته مؤسسات إعلامية مثل شبكة الجزيرة وصحيفة نيويورك تايمز وغيرها منذ سنوات.

اترك تعليقاً