مستقبل المعلومات في وجود الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي أصبح حقيقةً لا مفر منها في حياتنا اليومية، والموجة الحالية من التطور التقني تشكّل مستقبلنا بطريقة غير مسبوقة، إلا أن التحديات والمخاوف المتزايدة ليست فقط مرتبطة بالسيطرة على الوظائف، وإنما تصل إلى حد السيطرة على المعلومات وتأثيراتها على مختلف جوانب الحياة المعرفية التي تصل إلى التلاعب بالمعلومات، وانتشار الأخبار الكاذبة.

كان الحديث الرائج عن الذكاء الاصطناعي يبدو كأنه جزء من روايات الخيال العلمي، بيد أن دمجه اليوم في حياتنا اليومية بات واضحًا، وصارت تطبيقاته في مجالات معتمدة بشكل رئيسي على تحليل المعلومات وتوليدها مثل خوارزميات تحليل المحتوى في منصات التواصل، وصولاً إلى نظام أبل الجديد iOS 18 الذي أطلق مؤخرًا منذ أيام للعامة، ويتمتع بقدرات أشبه بأدمغة تحلل كامل محتوى الجهاز.

نظريات حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيغير مسار التحكم في صناعة المعلومات وبثها وتأثير ذلك على المستقبل طرحها خبراء في قمة القادة العالمية التي حضرتها في إسطنبول يومي الأربعاء والخميس الماضيين، خلالها أثيرت عديد من التساؤلات التي تطرح بالفعل في الأوساط الصحفية مثل دقة المعلومات وسيطرة الذكاء الاصطناعي على الوظائف ومدى الاعتماد اليومي على إبداعاته في مقابل تولي البشر السيطرة لتصبح الروبوتات مساعدة.

ثمة فكرة مغرية تستند على الاعتماد على قدرات الذكاء الاصطناعي الفائق في العمل  الذي يبتعد عن كونه مجرد محاكاة للسلوك البشري، في سبيل استبدال الصحفيين الذين تتأثر معلوماتهم، إذ تؤثر المشاعر على قرارات البشر اليومية، وهي إن أخذت على محمل سيء قد ينتج عنها مشكلات التحيز والتضليل، لذا فإن الوهج بفكرة تقنية بديلة يحتاج إلى تحديد أطره لوضعه في حجمه المناسب.

وبحكم أن الجدل حول تهديدات الذكاء الاصطناعي متسع النطاق، خصوصًا في مرحلة ما بعد الجائحة وتزايد الاهتمام بالاستدامة في المؤسسات، فإن المؤسسات المعنية بصناعة الأخبار ليست بعيدًا عن هذه النقاشات، إذ تنشغل تلك المؤسسات في جميع أنحاء العالم ببحث آليات دمج الذكاء الاصطناعي، ولاسيما فيما يتعلق بالمبادئ الأخلاقية والإشراف والتعامل مع المعلومات في زمن انتشار الزيف والتضليل الذي دخلت بوتات الذكاء الاصطناعي في هذه المعادلة، فضلاً عن المخاوف الأخلاقية وأخرى مرتبطة بالخصوصية والأمان.

مخاوف الأمان المعلوماتية

مثّلت حادثة تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية في العديد من مناطق لبنان مثالاً هامًا في فهم خطر التحكم في المعلومات، وهي النقطة ذاتها التي لفت مستشار الذكاء الاصطناعي جيريمي براسيتيو الحضور لها خلال القمة، قبل أن يعرض اقتباس الملياردير الأمريكي الشهير وارن بوفيت ”الأمن السيبراني هو المشكلة الأولى التي تواجه البشرية”.

اقتباس آخر عرضه لـ“جيفري هينتون“ – الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، الذي يقول فيه ”لا أحد يفهم حقًا كيف يعمل الذكاء الاصطناعي“، وهذه الرؤية الضبابية تمثل أيضًا علاقة الصحفيين الذين يتعاملون مع الذكاء الاصطناعي في نظرتهم للمعلومات المتدفقة في الفضاء الرقمي أو إنتاج معلوماتهم من خلاله. 

ثمة تحدٍ خطير آخر متمحور حول فكرة أن مجتمع القراصنة الإلكترونيين قد بدأ بالفعل في استغلال الذكاء الاصطناعي لمضاعفة جهودهم وسرعتهم، وفق ما أشار إليه، أي أن قوة الذكاء الاصطناعي تسمح بأتمتة العديد من مهام القرصنة للمعلومات الضخمة المنتشرة في الفضاء الرقمي وتمهد الطريق للمبتدئين في هذا المجال.

تزايد الاعتراف بخطورة التضليل على المجتمعات ومعه ارتفعت المسؤولية على المجتمع، ورأى جون إلكينغتون، الكاتب في مجال الأعمال والاستدامة، ن الذكاء الاصطناعي له ارتباط وطيد بخطر إنتاج معلومات مضللة، كان ذلك في سياق كلمته عن خطره على استطلاع منتدى الاقتصاد العالمي عن التهديدات العالمية المتوقعة خلال العشر سنوات المقبلة، واحتل فيه التضليل المرتبة الخامسة في التحديات التي تواجه العالم وربط ذلك بانعدام الأمن السيبراني، الذي جاء في المرتبة الثامنة.

بدى واضحًا في حديث براسيتيو، وإلكينغتون، أن تهديد الأمن السيبراني بات أمرًا وشيكًا وخطرًا يهدد مستقبل الأفراد والأعمال في التعامل مع المعلومات، ما يشير إلى أن ذلك يتطلب تكاتف الجهود بين المجتمع لمواجهة هذه التحديات.

المستقبل 

على الرغم من وجود هذه المخاوف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وتطوره في المستقبل، إلا أن خبراء يرون أن هناك مبالغة في تأويلها. أندرو سينس، مستشرف المستقبل، يرى أن الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، ولن يحل محل الصحفيين، إذ عبّر عن أن فكرة استبدال الذكاء الاصطناعي للوظائف هي خرافة رائجة، مشيرًا إلى أن إقالة 75 ألف موظف في 266 شركة تقنية هذا العام فقط مجرد مبالغة في تقدير الأمر.

وفق هذا الرأي يبقى التحدي الأساسي هو أن يتم استخدام هذه الأدوات بحذر ومسؤولية، لضمان الحفاظ على القيم الأساسية للصحافة من دقة، ومصداقية، وربما تشجع فكرة وجود قوانين  تنظيمية في علاقة البشر مع الذكاء الاصطناعي على أن تزيل مخاوف تشكل عوائق أمام الابتكار في التعامل معه.

الذكاء الاصطناعي أمام البشر.. من يتفوق؟

رغم استعراض المتحدثين المستويات الهائلة للذكاء الاصطناعي وتفوقها الكبير على مستوى ذكاء الإنسان، إلا أن الرؤية الإيجابية لمستقبل الذكاء الاصطناعي، أوضحها أندرو ومتحدثون آخرون في نقاط أعتبرها تمثل بارقة أمل في النظر للصحفي تميزه عن الحالة، مثل: وجود المشاعر والعواطف، والتفكير النقدي، ومهارات التواصل.

في ما يتعلق بتعامل المستخدمين مع الأخبار، اتفق أندرو مع النتائج العملية لأدوات الذكاء الاصطناعي، والأبحاث التي تدرس المساحة المشتركة بينه وبين الصحافة في أن بوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي لاسيما المشهورة منها مثل: ”تشات جي-بي-تي“(ChatGPT) و ”جيميني“ (Gemini)، ليست فعالة في الحصول على الخبر وتدقيقه، وربما تضلل المستخدم في بعض الأحيان بإجابات تضفي عليها طابعًا مقنعًا.

تذكرت آنذاك دراسة أجراها مركز رويترز لدراسات الصحافة والتقنية هذا العام شملت 4500 تجربة سؤال لبوتات دردشة الذكاء الاصطناعي، لقياس مدى جودة الحصول على ”آخر الأخبار، أثبتت تعذر ”تشات جي-بي-تي“ في الحصول على إجابة صحيحة بما وصلت نسبته 54-52 ٪ من مرات طلب ”أهم عناوين الأخبار الحالية“ من وسائل إعلام محددة، بينما كانت النسبة أوسع بكثير مع ”جيميني“ (Gemini) هي 95٪ من مرات التجارب. (رابط)

تثبت هذه التجربة أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي في الصحافة لا يزال أمرًا غير مجدٍ بل ومضلل في حالات التحقق من المعلومات على سبيل المثال.

لاتضاح الرؤية أكثر تحدثت مع الدكتور  أوليغ كونوفالوف، المفكر العالمي، والمصنف ضمن أفضل 8 خبراء في القيادة على مستوى العالم، الذي أكد لي أن عقلية الإنسان هي نقطة التميز أمام الذكاء الاصطناعي، ولخص لي الدكتور – وهو الخبير في القيادة الرؤيوية – منظوره لمستقبلنا في وجود الذكاء الاصطناعي في جملة قالها لي على هامش القمة: ”الذكاء الاصطناعي هو نتاج إدخالاتنا البشرية، ولا يمكنه التنبؤ بالمستقبل وإنما هي عملية رهان“. 

بناء على نقاش متبادل وفهم لتدقيق المعلومات الذي نقوم به في وكالة سند بالجزيرة، شاطرني الرأي بأن بسبب اعتماد الذكاء الاصطناعي على مدخلاتنا البشرية ولا يمكنه التفكير بشكل مستقل، وهو ما يجعل العقل البشري العامل الحاسم في تقديم صحافة ذات جودة متقنة.

أحد أفضل فرص الذكاء الاصطناعي التي عرضت وأعتبرها مفيدة للصحفيين هي استخلاص المعلومات من البيانات الضخمة الموجودة في المصادر المفتوحة، عبر Deepmind التابع لغوغل، والذي يتيح أيضًا تحديد الأنماط في المحتوى، والترجمة الآلية للمساعدة في دعم الصحفيين في التدقيق اللغوي وتحسين الجمل وحتى اقتراح عناوين جذابة. 

في ظل التطور السريع للذكاء الاصطناعي، تجد الصحافة نفسها في موقف يتطلب إعادة تعريف علاقتها بالتقنية، وما تحتاجه المؤسسات لاسيما الإعلامية اليوم هو وضع استراتيجيات ذكية تستفيد من مزايا الذكاء الاصطناعي لأتمتة مهام روتينية في غرف الأخبار والتركيز على رفع مستوى الإبداع، دون التخلي عن القيم الأساسية للصحافة التي تعتمد على الدقة، التحقق، والتفاعل الإنساني.

يعتمد الإنسان بشكل أساسي على التحليل البشري والتفكير النقدي، وهما عنصران لا يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاتهما بالكامل – حتى الآن على الأقل -، ولا يزال العنصر البشري متميزًا بإنتاجاته الإبداعية التي تحفزها المشاعر والعقلية الخاصة، لكن ذلك لا ينكر حقيقة وجود فرص مبنية على قدرات الذكاء الاصطناعي الفائقة لإنتاجات ترفع مستوى الصحافة معتمدة على تحسين قدرات الصحفي، لاسيما في التعامل مع المصادر المفتوحة في مجالات مثل: التعلم الآلي وتحليل البيانات الضخمة، وذلك في سبيل رسم إرثٍ صحفي مستدام ينفع الناس فيمكث في الأرض. 

Comments are closed.